أين «ديكران» المُنقذ؟

يعود الوجود الأرمني في المنطقة إلى حقبة الملك «ديكران العظيم» بين أعوام 95 حتى 55 قبل الميلاد، حيث أسس هذا الملك ــــ الذي أطلق عليه القنصل الروماني «شيشرون» لقب “ملك آسيا العظيم” ــــ أقوى دولة في شرق الامبراطورية الرومانية وعاصمتها «ديكراناكيرد»، الواقعة حالياً في جنوب شرق تركيا.

بحسب الوثائق التاريخية المُتفق عليها من قبل المؤرخين، دخل الملك ديكران الثاني إلى سوريا عام 82 قبل الميلاد بعدما تنازع حُكام وأُمراء السلوقيين على العرش، فاحتل شمال سوريا أولاً، ثم توجه إلى صيدا وصور (فينيقيا)، حتى أضحت سوريا بكاملها خاضعة لسيطرة الامبراطورية الأرمنية. استمر حكم الملك ديكران لسوريا حوالى 14 سنة، حتى عام 67 عندما دخل القائد الروماني «بومبيوس الكبير» إلى أرمينيا وأنهى حكم الإمبراطورية الأرمنية في سوريا، فعادت إلى حكم السلوقيين.
بعد نحو ألفي عام على رحيل الإمبراطورية الأرمنية عن سوريا، عاد الأرمن إلى المنطقة لكن هذه المرة هاربين من الإبادة الجماعية أو «الجريمة الكبرى» التي تعرضوا لها على يد السلطنة العثمانية، حيث ذهب ضحيتها حوالى 1.5 مليون أرمني، فوجد أسلاف الناجين من المذابح الممنهجة ملاذاً اَمناً بين مسلمي بلاد الشام، وخاصةً في سوريا ولبنان.
بسبب حساسية موضوع التوازن بين المسيحيين والمسلمين، لم تجر الحكومات اللبنانية المتعاقبة احصاء ديموغرافيا رسميا لعدة عقود، لكن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن هناك اليوم ما يقرب من 150 ألف أرمني في لبنان، أي حوالي 4% من السكان. ويُعتقد بأن عددهم كان أكبر قبل الحرب الأهلية (270 ألف)، لكن المجتمع الأرمني خسر جزءاً من أبنائه بسبب الهجرة إلى الدول الغربية وبخاصة إلى الولايات المتحدة.
الأرمن في لبنان يتوزعون على ثلاث طوائف هي: الارثوذكس والكاثوليك والانجيليون، ويسكنون في مختلف المناطق ويعيشون بكثرة في منطقة برج حمود وعنجر وانطلياس، ولهم في مجلس النواب اللبناني 6 نواب، ووزيران (إذا كانت الحكومة مؤلفة من أربعة وعشرين وزيرا وما فوق) أو وزير واحد إذا كان عدد الوزراء أقل من 24 وزيرا، ويتوزعون على ثلاثة أحزاب رئيسية: الطاشناق والهنشاك ورامغفار.
خلال القرن الماضي، سارع الأرمن للإندماج وأثَّروا وتأثروا مع الشعوب الأخرى، لكن نجاح عملية الاندماج تختلف من مكان إلى آخر. ففي الوقت الذي اندمج فيه الأرمن على نحو شبه كامل في لبنان وسوريا دون فقدان هويتهم الأرمنية، لم يكن هذا الأمر مشابهاً في الدول الأوروبية والولايات المتحدة.

على سبيل المثال، لبنان بالنسبة للجزء الأكبر من الأرمن بمثابة وطن ثانٍ وهناك أسباب كثيرة لذلك. في البداية، قدم لبنان للأرمن ما يكفي من الحريات لتحقيق الإزدهار الاقتصادي، وممارسة النشاط الإجتماعي والثقافي والديني، فأنشأوا المعابد والمدارس والجامعات والجمعيات والنوادي الثقافية والرياضية والاذاعات والصحف الأرمنية. والأهم الحرية السياسية التي حصلوا عليها بفضل النظام الطائفي من أجل تحقيق مصالحهم القومية، والاستقلالية المجتمعية للحفاظ على هويتهم الأرمنية.
إلى جانب ذلك، ما ميَّز أرمن لبنان هو حيادهم الإيجابي في الصراعات الطائفية والمذهبية التي تضرب بلاد الأرز بين الحين والاَخر، وبقوا على مسافة واحدة من كافة شرائح ومكونات الشعب اللبناني ولم يشاركوا في الحرب الأهلية، الأمر الذي انعكس عليهم على نحو إيجابي. فأصبحت ملحوظة كمية الحب والاحترام التي يكنها الاَخرون تجاه الأرمن بسبب صدقهم وأخلاقياتهم وانتمائهم الوطني، وهذه نقطة في غاية الأهمية، حيث أظهر الأرمن ولاء وانتماء منقطعي النظير، ويعود الفضل إلى استراتيجية “نعم للاندماج.. لا للإنصهار”. بعبارة أخرى، حرص الأرمن على الإندماج في المجتمع اللبناني، ووضعوا كل الجهود اللازمة من أجل مصلحة لبنان مع الحفاظ على هويتهم وثقافتهم ولغتهم الأرمنية.
وكانت سوريا قضية مماثلة على المستويات المجتمعية والاقتصادية والثقافية، لكن حظر النظام السياسي في دمشق لإنشاء أحزاب سياسية على أسس طائفية أو دينية، حال دون إنخراط الأرمن على نحو منظم في الحياة السياسية السورية، على غرار اخوانهم في لبنان. لكن كانت للأرمن كوتا (quota) غير معلنة في سوريا حصلوا بموجبها على مقعد واحد على الأقل في مجلس الشعب (ما عدا دورة 2012)، ثم على مقعدين في دورة 2016 ممثلين بالسيد جيراير رائيسيان من حلب والسيدة نورا أريسيان من دمشق. هذا التسامح الرسمي والمجتمعي الذي تمتع به الأرمن جعل من لبنان وسوريا بلاداً مميزة للشتات الأرمني.
تجدر الإشارة هنا، إلى أن السياسة التقدمية والسلمية والوطنية التي اتبعتها الأحزاب الأرمنية في لبنان هي ذاتها التي اتبعتها القيادات الأرمنية في سوريا، وبفضلها بنى أرمن سوريا أفضل العلاقات مع مكونات الشعب السوري وأصبحوا جزءا أساسيا وفاعلا في النسيج المجتمعي السوري، لكن مع بداية الحرب على سوريا لم تقرأ هذه القيادات الصراع الجيوبوليتيكي جيدا، ولم تعرف أن سياسة الحياد الإيجابي التي نحجت في لبنان سابقاً لن تحمي المصالح الأرمنية في سوريا، التي تعرضت لأشد أنواع الإرهاب العثماني والوهابي. وبالتالي لم يبق أمام جزء لا بأس به من أرمن سوريا خيار سوى الهجرة إلى كافة أصقاع الأرض على أمل العودة مجددا إلى سوريا التي أحبوها.
في هذا الصدد، تقول السيدة فيرا يعقوبيان، المديرة التنفيذية للهيئة الوطنية الأرمنية في الشرق الأوسط، إنه حيثما وُجد الارمني وفي أية بقعة جغرافية في الشرق أو الغرب وُجدت كنائسه ومدارسه وجمعياته الثقافية. بمعنى أن الأرمني استطاع أن يحافظ على خصوصيته الثقافية واللغوية والدينية أينما حل. هذه الخصوصية لم تمنع الأرمني من الاندماج في المجتمعات العربية لأن الأرمن عاشوا مع بعضهم بعضا وتفاعلوا مع من حولهم من دون أن ينصهروا أو أن يُجبروا على الانصهار في هذه المجتمعات. وبحسب يعقوبيان، فإن نسبة الانصهار في المجتمعات العربية لا نستطيع أن نقول إنها معدومة ولكنها ضئيلة اذا ما قورنت بالغرب. فمثلا الزواج المختلط نسبته ضئيلة في العالم العربي، أما ارتياد المدارس غير الأرمنية، فهو ظاهرة غير مُشجعة.
في المقابل تعتقد يعقوبيان بأن الأمر يختلف في الدول الغربية، لأنه في المجتمعات الغربية وان كانت هذه الخصوصية أولوية بالنسبة للأرمني إلا أن من الصعب المحافظة عليها لوقت طويل بسبب تركيبة تلك المجتمعات الغربية. فمثلا الهوية الاميركية أو المجتمع الاميركي المفتوح لا يهدد الخلفية الاثنية أو العرقية لأي مهاجر. بمعنى أنه ليست هناك عوائق دينية او ثقافية تمنعه من الانصهار، لذلك فان خطر الانصهار في المجتمعات الغربية أسهل وأسرع مما هو عليه الحال في المجتمعات العربية حيث العوائق الثقافية والدينية واللغوية. وهذا ما تعانيه اليوم المجتمعات الارمنية في الدول الغربية.
بناءً على ما سبق، عدّ الأرمني لبنان وسوريا وطناً له، عاش في هذين البلدين وكأن فكرة العودة غير موجودة إلى وطن الأم أرمينيا. أعطى كل ما في وسعه لتحقيق المصالح الوطنية، بقي مخلصاً وشاكراً لشعوبٍ حمته بعدما تخلى عنه العالم كله. لكن بعد عودة الإرهاب الطوراني إلى المنطقة واستهداف شعوب المنطقة بشكل عام والأرمن بشكل خاص، ابتداءً من كسب ومروراً بحلب ووصولاً إلى ناغورنو كاراباخ، أُعيد إحياء الذاكرة الجماعية للأرمن عن ويلات القرن الماضي، وبدأوا يسألون: ألم يحن الوقت لظهور «ديكران» اَخر؟

كيفورك ألماسيان
باحث في السياسات الدولية
Al Akhbar